الخطأ في حياة الناس أمر وارد الحدوث، ولا يستطيع إنسان أن يدعي العصمة مهما كان شأنه فيقول أنا لا أخطئ إلا الأنبياء والمرسلين، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"(1).
والخطأ الحقيقي هو تمادي البعض في خطئهم، وعدم اعترافهم به، والإصرار عليه، والجدال عنه بالباطل، واعتبار الرجوع عنه نقيصة.
لماذا الرجوع إلى الحق من أخلاق الكبار؟
لأن الرجوع إلى الحق يعني الاعتراف بالخطأ، وهذا قلما يقبله إنسان أو يعترف به.
ولأن الرجوع إلى الحق يعني إكساب الآخرين رجاحة القول والرأي، وقد يُلحق النقيصة بالعائد في قراره، وهذا أيضًا لا يقدر عليه إلا الكبار.
ولأن الرجوع إلى الحق قد يجعل الآخرين ينظرون إلى العائد في قراره على أنه ضعيف، غير قادر على إدارة المركز الذي يشغله، وهذا أيضًا لا يقدر عليه إلا الكبار.
ولأن الرجوع إلى الحق قد يُسهم في تقليل فرص الشخص في إلحاق مهام جديدة له في عمله، وهذا ما لا يتحمله إلا الكبار.
محطات:
الكبار لهم محطات في حياتهم يُراجعون فيها أنفسهم ويصححون فيها مسارهم، حتى لا يسترسلون في خطأ وقعوا فيه، أو هوى انساقوا إليه، فإذا كان هناك ثمة خطأ أو هوى عالجوه قبل أن يستفحل.
فهم ليسوا كالصنف من الناس الذين يُحددون لأنفسهم قناعات لا يحيدون عنها، أو قرارات لا تقبل المراجعة والتصحيح، فحينئذ لن يسلموا في قراراتهم من هوى مطغٍ، أو خطأ مهلك.
بل يوقنون بأن الإنسان بشر، والبشر قد يجتهد ومهما كان اجتهاده للوصول إلى القرار الصحيح، فإن احتمالات الخطأ وارده، ولا بد من تداركها، ولن يكون هذا إلا بالاعتراف بالخطأ ابتداءً.
المشورة:
صغار النفوس لا يُفضلون استشارة من حولهم أو الاستئناس برأيهم حول قضية من القضايا، خشية أن يُظهر ذلك عدم كفاءتهم أو عجزهم عن اتخاذ القرارات أو لتكبر جبلت عليه نفوسهم.
أما الكبار فيحرصون على الشورى، ويلتمسون فيها الخير والبركة، ولا مانع عندهم من العودة في آرائهم متى رأوا الصواب في غيرها.
وفي قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حول قضية جمع القرآن خير دليل على ذلك، فالكبار يسعون إلى الحق، واجتهادهم يكون للوصول إليه، فمتى لاح لهم الحق سارعوا إلى إتباعه وإن جاء على لسان غيرهم، فالخليفة أبي بكر كان مترددًا في أن يُقدم على فعل شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب يخشى على القرآن الضياع أو النسيان، وكان يرى فيه الخير، فظل أبو بكر يرفض، وعمر يكرر دعوته حتى وافق أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين.
رويَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ..."